من مشروع "براكة": تعلّمْتُ درساً
تلقيت دعوة كريمة من مؤسسة الإمارات للطاقة النووية لإلقاء محاضرة عن الطاقة الإيجابية، وكان من دواعي سروري أن ألبي هذه الدعوة المشكورة بما تستحق من الاستعداد والتحضير، لكن المفاجأة المدهشة التي جاءت خلافاً لاستعداداتي وتوقعاتي تمثلت في أني تعلمت درساً في الطاقة الإيجابية حيث يجب أن ألقي محاضرة عنها.
لبيت الدعوة سعيداً لأني عوّدت نفسي على ألا أفوّت أيّما دعوة تفتح لي باب المساهمة في تعزيز التطبيق العملي على أرض الواقع المؤسسي لملمح هام من ملامح فكر سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ألا وهو الطاقة الإيجابية. وفضلاً عن ذلك، لعلي لا أبوح بسر إذا ما كشفت لكم أني طالما وددت لو يتاح لي أن ألقي نظرة، ولو خاطفة، على ما وصلت إليه بلادنا في هذا المضمار الحيوي والهام والجديد من مضامير الاقتصاد الوطني، الطاقة النووية للأغراض السلمية.
إذن لقد أمكنتني الفرصة من تحقيق حلم لديّ، وكان أن ألقيت المحاضرة في بحر الأسبوع الماضي في موقع مشروع براكة للطاقة النووية السلمية التابع للمؤسسة. وقصارى القول أنها كانت زيارة تاريخية بالنسبة لي ملأت نفسي بمشاعر الفخر والاعتزاز، وهي مشاعر لا أستطيع في هذه العجالة حصر أسبابها ودواعيها والإحاطة بها كلياً، لكن يسرني أن أطلعكم على حزمة منها حركت مشاعر فياضة وعواطف وطنية جياشة.
من المعروف أن دولة الإمارات دولة فتية بالقياس إلى أعمار الدول، وأن ما مضى من وقت على مسيرة الإنجاز لا يتعدى عدة عقود، فكان المصدر الأول للشعور بالفخر نابعاً من كون هذه الدولة الفتية تصدت لهذا المشروع العملاق الذي تنوء به كبرى الدول بما لها من موارد وإمكانيات. هنا يكمن أول مصادر فخري بهذا المنسوب الراقي من الإنجاز في إنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية، ولا بد هنا من التركيز على كلمة "سلمية"، الأمر الذي يواكب توجهات الدولة في تطبيق أفضل الممارسات في استخدامات الطاقة وفي تعزيز فرص السلام حول العالم. فالإمارات دولة بناء ودولة سلام.
لم يكن تحقيق هذا المنسوب من الإنجاز وليد مصادفة ولا حصيلة مجازفة، بل نتيجة رؤية قيادية سباقة ومبادرات ريادية غير مسبوقة، ودعوني أضرب على هذا الدور القيادي الملهم مثالاً واحداً. فقد حدثني أحد العاملين في المؤسسة أن سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، أثناء زيارته هذا المشروع، طرح سؤالاً عن عدد الموظفين والعاملين المواطنين في هذا الموقع، وبعد أن تلقى الإجابة على سؤاله، أردف سموه "إذا لم يقم هذا المشروع وينهض على سواعد وعقول وطنية، فلن تكونوا فعلتم سوى أن زدتم حجراً على حجر". هذه هي رؤية رجالات الدولة الواعين بحقيقة التقدم راسخ الأركان والمتنبهين للأسس الوطيدة للتنمية المستدامة، وهذا هو مبدأ العمل والإنجاز الذي ينبغي تعميمه على مؤسسات الوطن كافة. ولنا أن نفخر ونعتز بقيادتنا التي يطيب لي دائماً أن أردد أننا محظوظون بها ومحسودون عليها.
أما المصدر الثالث للفخر والاعتزاز فهو صنو المصدر الثاني، وقد لمسته من واقع لقاءاتي ومشاهداتي خلال اليومين اللذين قضيتهما في ذلك الموقع. ذلك أني التقيت في موقع المشروع بنماذج من الشباب المواطن الذي يحق لنا أن نفخر بها، نماذج تمثل برهاناً ساطعاً على صواب ونجاح هذه الرؤية في بناء كفاءات وطنية لم يكن حلم امتلاك أمثالها ليخطر على البال قبل عدة سنوات فقط.
ليس في هذا القول أي قدر من المبالغة، لا سيما أن هذا الشباب المواطن العامل في هذه المؤسسة تُوكَل إليه اليوم مهمة تدريب عاملين في هذا المجال آتين من دول ومناطق أخرى. لقد قطعنا شوطاً على هذا الصعيد يدفع سوانا للاستفادة من تقدمنا، وأصبحت لدينا الخبرات والموارد البشرية الكفيلة بتدريب الآخرين في هذا المجال الحيوي والهام. لهذا فإن ما أثلج الصدر تجلّى في أن مؤسسة الإمارات للطاقة النووية ليست على الإطلاق مؤسسة مبان ومنشآت، وإن كان ذلك مما لا تُغفل أهميته، بل مؤسسة سواعد وعقول وطنية سبقت نظيراتها جداً واجتهاداً وفاقت مثيلاتها علماً وعملاً.
أصدقكم القول لقد كان لسموه ما أراد، فلكُم أن تتخيلوا مدى سعادتي وأنا أرى سيادة هذا المبدأ في هذا المشروع بالذات، هذا المشروع القائم على كواهل وعواتق شباب مهندسين مواطنين في ريعان الشباب ومقتبل العمر. ولعل في ذلك رداً حاسماً وقاطعاً على مزاعم ظلت تلقى آذاناً صاغية في مجتمعنا مؤداها أن شبابنا راكن للكسل وقلة العمل، وأن لا هم للشباب المواطن سوى المظاهر والكماليات، وأنه مسكون برغبة المفاخرة والمباهاة، وأنه مبتلى ببلاء الموضة وهوس "الكشخة".
في موقع براكة الذي يبعد مئات الكيلومترات عن أقرب مركز تسوق، أيقنت مدى جور هذه المزاعم والاتهامات الباطلة بحق شبابنا الذي يضرب في مؤسسات العمل الوطني أروع الأمثلة.
والحقيقة أن بناء مثل هذه المفاعلات لا يمكن التهوين منه أبداً، ولا بد لحجم هذا المشروع أن يسترعي انتباهي ويحظى باهتمامي، وكيف يمكن الانتقاص من قدر هذا العمل الجبار؟ بيد أني سأتناول الأمر من زاوية أخرى، إذ كانت ملاحظتي الأبرز في هذا السياق تتمثل في أن هذا العمل جاء عكس طبيعة المألوف وعلى خلاف المعتاد، فقد جرت العادة على أن تبدأ المشاريع صغيرة ثم تكبر وتتطور. الأمر هنا مختلف تماماً، لقد بدأنا كباراً وما نزال نكبر. ولا شك أن الدافع الأول لهذا الابتكار يتمثل في إيمان القيادة الرشيدة في هذه البلاد المعطاء بجبروت القدرة الإنسانية واعتقاد قادتها بأن المستحيل محض خرافة. وإلا كيف يمكن لدولة شابة أن تبني مفاعلاً نووياً من بين أفضل 5 مفاعلات نووية في العالم؟ وذلك مصدر آخر للفخر.
من جانب آخر، لا يفوتني أن أتحدث هنا عن المفارقة اللطيفة التي أشرت إليها في المقدمة، فقد لبيت الدعوة الكريمة من إخوة كرام في مؤسسة الإمارات للطاقة النووية وأنا عازم على أن أحاضر في الطاقة الإيجابية، أي أن أتحدث عن مكامن ومزايا وبواعث الطاقة الإيجابية في مؤسسات الدولة. بيد أن ما صادفته هناك رفع مستوى طاقتي الإيجابية إلى مستويات لم أعرفها من ذي قبل. بعبارة أخرى، لقد ذهبت لألقي محاضرة في الطاقة الإيجابية فرجعت وقد تلقيتُ درساً عملياً فيها، وهو درس زاخر بأمثلة المآثر الفردية والمؤسسية. وذلك أيضاً يدعو للفخر.
قريباً من القلب والهم الشخصي والتخصص المهني، يسعدني أن أتحدث عن مصدر آخر للفخر، وهو فخر نابع من كون هذه المؤسسة قائمة على الجودة والتميز اللذين بهما تعرف الإنجازات وبهما تقاس النجاحات. فقد سبق لي أن خبرت عن كثب إصرار قيادة هذه المؤسسة على معايير الجودة والتميز عندما ترأست لجنة التحكيم العليا لجائزة براكة للتميز في مؤسسة الإمارات للطاقة النووية، وهي جائزة تكرم الإدارات والأقسام والأفراد الذين كانوا في عملهم تجسيداً للجودة وقدوة في التميز.
أخيراً وليس آخراً، أشكر إخوتي الكرام في المؤسسة على دعوتهم الكريمة، وهنيئاً لهم بما قطفوا من ثمرات الكد والجد والاجتهاد، وهنيئاً للوطن بهذا المشروع الذي يعد بحق من أبرز مصادر الفخر في تاريخنا المؤسسي الحديث.